العودة إلى إسبانيا: بين همسات الريف ونبض جزر الكناري
امتداد لرحلة بدأت في مدريد وانتهت حيث لا ينتهي الحلم.البداية: حين يشتاق القلب لما هو أعمق
عدت من رحلتي الأولى إلى إسبانيا وأنا محمّل بالدهشة. مدريد أشعلت فيّ حب المدينة، برشلونة فتحت لي بوابات الفن، وغرناطة وإشبيلية دلّتاني على عبق التاريخ. لكن مع مرور الأيام، بدأت أشعر أن شيئًا ما يناديني من بعيد… شيء مختلف.
كنت أفتقد إسبانيا، نعم، لكن لم أكن أفتقد صخب المدن، بل ذلك الهدوء الذي لمحته للحظة وأنا أنظر من نافذة القطار بين مدريد وبرشلونة… تلك القرى الصغيرة، التلال الخضراء، الغيوم المنخفضة، والبيوت الحجرية التي تبدو كأنها تهمس: "تعال".
وفي إحدى الليالي، وبينما كنت أتصفح صور الرحلة، اتخذت القرار:
سأعود، لكن هذه المرة إلى قلب الريف، إلى حيث تتحدث الطبيعة بلغة أهدأ، أعمق، وأقرب للنفس.
الطريق إلى الشمال: أول لقاء مع الريف الإسباني
هبطت هذه المرة في مطار سانتياغو دي كومبوستيلا، شمال غرب إسبانيا، في منطقة تُدعى غاليسيا. لم تكن مزدحمة. لا ضجيج. فقط نسيم بارد يحمل رائحة الأرض الرطبة، وسماء رمادية تهدد بالمطر.
منذ اللحظة الأولى، أحسست أن هذه الرحلة ستكون مختلفة. لا جدول مزدحم، لا زيارات متعجلة، فقط أنا والطريق.
استأجرت سيارة صغيرة، وانطلقت أتجول بين قرى غاليسيا.
طرقات ضيقة تتلوى وسط التلال، ضباب خفيف يعانق الأشجار، ومزارع خضراء تمتد حتى الأفق. أحيانًا كنت أضطر للتوقف لأن بقرة قررت أن تقطع الطريق ببطء، بلا استعجال… وكأن الزمن هنا يمشي على مهل.
الحياة البسيطة: في ضيافة قريّة تنسى الوقت
في إحدى الليالي، وصلت إلى قرية صغيرة تدعى أوس كاستروس. لا شيء سياحي هنا، فقط بيوت حجرية، فرن تقليدي، ومقهى صغير يجتمع فيه أهل القرية في المساء.
سكنت في منزل ريفي قديم تحوّل إلى نُزل صغير. صاحبة المكان، سيدة مسنّة تُدعى ماريا، استقبلتني وكأني حفيدها الذي عاد من الغربة. جلستُ معها في الحديقة الخلفية، وقدّمت لي كوبًا من الشاي المحلي، ورغيف خبز طازج خرج للتو من التنور.
سألتني: "هل أنت هارب من المدينة؟"
أجبتها ضاحكًا: "بل من السرعة."
فقالت: "إذن، ستجد هنا ما تحتاجه."
قضيت في القرية ثلاثة أيام. كنت أستيقظ مع أصوات الطيور، وأتناول الفطور في الشرفة المطلة على الحقول، وأتجول بين المزارع، أتنفس هواءً نقيًا لم أذقه منذ زمن.
أستورياس وكانتابريا: الجبال التي تشبه الحكايات
من غاليسيا، قدت السيارة نحو الشرق، إلى أستورياس وكانتابريا، حيث الجبال الشاهقة والغابات الكثيفة والأنهار الباردة.
زرت بلدة كوفادونغا، حيث توجد كنيسة صغيرة مبنية داخل مغارة وسط جبل. وقفت هناك، أصغي لصوت الشلال القريب، وهدير الريح وهي تعانق الجبال. لم يكن هناك سائحون كُثر، فقط بعض الحجاج والمصلين، والهدوء يلف المكان كما يلف الغيمة القمة.
ثم ذهبت إلى بيكوس دي يوروبا، سلسلة جبال أخّاذة. استأجرت دراجة جبلية، وانطلقت في مسارات الطبيعة. كانت الغيوم تلامس رأسي، والبرد يلسع خدي، لكن القلب كان دافئًا، ممتلئًا بالسكينة.
الجنوب الريفي: الأندلس كما لم أرها من قبل
بعد أسبوع من الطبيعة الشمالية، عدت جنوبًا. لكنني تجنّبت المدن الكبرى، واتجهت إلى قرى الأندلس الريفية.
في روندا، المدينة المعلّقة على حافة الوادي، رأيت مشهدًا لا يُنسى. الجسر العتيق، البيوت البيضاء، وخرير النهر السحيق في الأسفل. جلستُ على سور حجري، أشرب عصير الليمون البارد، وأراقب الغروب وهو يصبغ السماء بالبرتقالي الناري.
زرت بعدها قرية موخير، حيث الأزقة الضيقة، والنوافذ المزينة بالورود الحمراء. النساء العجائز يجلسن أمام أبواب منازلهن، يحكن بصبر، ويتبادلن الحكايات. كل شيء هناك كان أشبه ببطءٍ جميل… نوع من السلام الداخلي الذي لا تشتريه بمال.
جزر الكناري: مفاجأة الرحلة
قررت بعدها أن أضيف فصلًا جديدًا للرحلة: جزر الكناري. كانت فكرة بدت جنونية في البداية، لكن شيئًا ما بداخلي قال لي: "جرب".
حجزت تذكرة طيران داخلية من إشبيلية إلى تينيريفي. وحين وصلت، كنت أشعر وكأنني انتقلت إلى كوكب آخر.
الجو هنا استوائي، دافئ طوال السنة. الشواطئ سوداء من أثر الحمم البركانية، الجبال تبدو وكأنها ترتفع من البحر، والنباتات غريبة الشكل، متنوعة، كما لو أن الطبيعة قررت أن تمزج كل ما لديها في مكان واحد.
زرت جبل تيد، أعلى نقطة في إسبانيا، حيث الهواء نقيّ لدرجة أنك تشعر أنك تشربه. استأجرت كوخًا خشبيًا في الغابة، وذات ليلة خرجت لأتأمل السماء… لم أرَ نجومًا بهذا الوضوح في حياتي.
وفي النهار، قضيت وقتي في شواطئ لوس كريستيانوس، وشربت عصير الأناناس الطازج تحت ظلال أشجار النخيل، وابتسمت… لأنني عرفت أن هذا المكان لم يكن جزءًا من الخطة، لكنه أصبح من أحب الأجزاء في الرحلة.
الثقافة الريفية والكنارية: البساطة في أبهى صورها
في الريف الإسباني، الناس مختلفون. لا يهتمون كثيرًا بالوقت أو بالمظاهر. يتحدثون ببطء، ويبتسمون كثيرًا. يحبون الأرض، ويعرفونها باسمها. في كل بيت زرته، كان يُقدَّم لي شيء من إنتاج المزرعة: زيت الزيتون، الجبن، العسل، أو حتى قطعة خبز مع قليل من الطماطم.
أما في جزر الكناري، فالثقافة لها نكهة أخرى. مزيج من إسبانيا، وأفريقيا، والبحر. الموسيقى هناك تُشبه الأمواج، والطعام مليء بالتوابل والنكهات القوية. الناس بشوشون، وأكثر ترحابًا مما توقعت.
لحظات لا تُنسى
في أستورياس، تعثرت دراجتي الجبلية وسقطت في جدول ماء بارد. ساعدني فتى صغير كان يصطاد الأسماك مع جده، وأصرّ على أن أشرب معهم شوربة عدس تقليدية تحت ظل شجرة. كانت ألذ شوربة تذوقتها في حياتي.
في تينيريفي، حضرت حفلًا عشوائيًا على الشاطئ. نُصبت الطبول، وبدأ الناس بالرقص، والغناء، وكأنهم يعرفون بعضهم منذ زمن. لم أفهم شيئًا من الكلمات، لكنني فهمت كل شيء من النظرات والضحكات.
نصائح لمن يريد استكشاف الريف الإسباني وجزر الكناري
- استأجر سيارة: التنقل بين القرى صعب بدون سيارة، والرحلة تصبح أجمل حين تقود بنفسك.
- لا تعتمد كثيرًا على اللغة الإنجليزية: قليل من الإسبانية + ابتسامة = كل شيء.
- جرب الإقامة في منازل ريفية: التجربة أكثر دفئًا وإنسانية.
- خذ وقتك: لا تُسرع. الريف يُعاش، لا يُستكشف على عَجَل.
- احترم الخصوصية: بعض القرى مغلقة ثقافيًا، فكن لطيفًا ومحترمًا دائمًا.
- في جزر الكناري، لا تنسَ واقي الشمس! فالشمس هناك أقوى مما تتوقع.
الختام: الرحلة التي غيّرتني
حين عدت من هذه الرحلة، لم أعد كما كنت.
تعلمت كيف أستمع للصمت، كيف أرى الجمال في التفاصيل الصغيرة، كيف أن الحياة ليست دائمًا في المدن المضيئة، بل ربما في قرية نائية أو على شاطئ مجهول الاسم.
إسبانيا علّمتني أن أعيش ببساطة، أن أبطئ خطواتي، أن أملأ عينيّ بالطبيعة بدل الشاشات، وأن أكون حاضرًا في اللحظة، تمامًا كما كانت ماريا تقول لي في كل صباح:
"كل شيء جميل، فقط إن نظرت إليه من قلبك."
هل سأعود؟
بالطبع. فهناك أماكن لم أصلها بعد، وأحلام لم تنتهِ.