في أعماق تولوم: حيث الغموض يهمس والجمال يتنفس تحت الماء
غصنا في أعماق تولوم لاكتشاف الكهوف المائية الساحرة التي تختبئ على ضفاف البحر الكاريبي في المكسيك.
كانت تجربة تنبض بالإثارة، حيث يلتقي الغموض بالجمال في أعماق الأرض…
لكن القصة، كما هي دائمًا، تبدأ قبل الغوص.
الهبوط إلى الحلم
حين وطأت أقدامنا مطار كانكون، كان الهواء مشبعًا برطوبة غريبة، رائحة الملح تتسلل إلى الرئتين، وكأن الكاريبي يهمس لنا من بعيد: "أهلًا بكم في عالمي."
استقبلنا ديفيد – مرشدنا المحلّي – بابتسامة هادئة وعينين يلمع فيهما الفضول.
"جاهزين لتغوصوا في قلب الأرض؟"
ضحكنا. لم نكن نعرف أن سؤاله لم يكن مجازًا.
انطلقنا في سيارة صغيرة باتجاه الجنوب، مرورًا بأدغال خضراء، طرق ترابية، وصوت الطيور الاستوائية يرافقنا كخلفية موسيقية طبيعية. بعد ساعتين من القيادة، وصلنا إلى تولوم – تلك البلدة الصغيرة التي تبدو وكأنها خرجت للتو من حلم استوائي.
تولوم: البوابة إلى عالم موازٍ
تقع تولوم على الحافة الشرقية لشبه جزيرة يوكاتان، وتطل على البحر الكاريبي بلون مياهه الفيروزي، الذي يبدو وكأنه لا ينتمي لهذا العالم.
لكن سر تولوم لا يكمن فقط في شواطئها أو أطلالها المايانية القديمة، بل في شيء أعمق… حرفيًا.
"هل سمعتم من قبل عن السينوتيه؟" سأل ديفيد.
هززنا رؤوسنا بالنفي، فابتسم وقال:
"استعدوا، أنتم على وشك اكتشاف عروق الأرض."
السينوتيه (Cenote) هي كهوف مائية طبيعية، تشكّلت قبل ملايين السنين نتيجة لانهيارات أرضية كشفت عن شبكات أنهار جوفية. بعض هذه الكهوف مفتوح على السماء، والبعض الآخر غارق بالكامل في الظلمة… وهنا يكمن التحدي.
اللقاء الأول: دوشّا تحت الأرض
كانت أول محطة لنا سينوتي دوس أوجوس (Dos Ojos) – ويعني "العينان".
حين وصلنا، استقبلتنا غابة كثيفة، تعصف بها الأصوات: خرير ماء، صفير الطيور، حفيف الأشجار… ورائحة التربة الرطبة.
سرنا نحو مدخل الكهف، وكان أشبه بفم عملاق مفتوح، يدعونا للدخول.
ارتدينا معدات الغوص، واستلمنا كشافات مقاومة للماء، ثم بدأنا نزول الدرج الحجري نحو قلب السينوتيه.
الماء بارد، نقي بشفافية مدهشة، يعكس ظلال الصخور المتدلية كأنها أنياب أسطورية.
"تذكروا أن تتنفسوا ببطء… وأن تراقبوا، لا تتوقعوا"، قال ديفيد بصوت خافت، كأنه يخشى إزعاج الكهف.
حين غصنا، بدأ كل شيء يتغير.
تحت الماء: حيث تتوقف اللغة
هناك، تحت سطح الماء، لا توجد كلمات.
فقط أضواء باهتة ترتد على جدران الكهف، ظلال تتراقص، وصمتٌ يُشبه صوت الخيال.
تحركنا ببطء، نُحلق داخل دهاليز ضيقة، نمر بين أعمدة حجرية طبيعية نحتها الزمن، ونكتشف فراغات تبدو بلا نهاية.
شعرت وكأني في معبد… ليس من صنع البشر، بل من صنع الطبيعة وحدها.
في لحظة ما، أطفأنا المصابيح، وأغلقنا العيون.
في تلك الظلمة المطلقة، يُمكنك أن تسمع قلبك… وربما قلب الأرض.
لقاء مع الماضي
ديفيد أخبرنا لاحقًا أن هذه الكهوف تحمل بقايا الماضي، حرفيًا.
فقد عُثر داخل بعض السينوتيه على هياكل عظمية لبشر ما قبل التاريخ، وعظام لحيوانات منقرضة، وحتى بقايا طقوس مايا القديمة.
في بعض السينوتيه المغلقة، تُوجد غرف مليئة بالهواء، يمكن للغواص أن يطفو فيها ويشعل شمعة.
هل تتخيل أن تطفو في كهف مائي، في ظلام دامس، وبين يديك شمعة تُضيء جدرانًا شهدت آلاف السنين من الصمت؟
الضوء في نهاية الكهف
غصنا في عدة سينوتيه خلال رحلتنا: أنخليتا، إل بيت، غراند سينوتيه، وكالافيرا.
كل واحد منها له شخصيته الخاصة – بعض الكهوف ضيقة كأنها تختبر شجاعتك، وبعضها واسعة كأنها قاعات ملكية من عالم آخر.
في غراند سينوتيه، وبينما كنا نسبح قرب فتحة تسمح للضوء بالدخول، رأيت انعكاسًا غريبًا.
ظلٌّ يتحرك، كأنه كائن قديم يستكشفنا كما نستكشفه.
نظرت إلى ديفيد، فابتسم وقال:
"أحيانًا، السينوتيه تعكس لك من أنت."
لماذا نغوص؟
بعد أيام من الغوص، التقطت نفسي أمام البحيرة الهادئة، وفكرت: لماذا يفعل الناس هذا؟ لماذا يغوصون في كهوف مظلمة، في أعماق مجهولة، ويخاطرون لأجل لحظات من الاكتشاف؟
ربما لأننا – في العمق – مخلوقات فضولية.
نحن لا نبحث فقط عن الأماكن، بل عن أنفسنا.
وفي الكهوف، حيث لا توجد إشارات ولا كلمات ولا شاشات… تبدأ ملامح الذات في الظهور.
نصائح لمن يريد أن يخوض هذه المغامرة
إن كنت تفكر في تجربة الغوص في كهوف تولوم، فإليك بعض النصائح التي ستجعل رحلتك أكثر أمانًا ومتعة:
- اختر مرشدًا موثوقًا: الكهوف لا ترحم من يخطئ الطريق.
- استعد نفسيًا للظلمة والصمت: قد يكون الأمر مُربكًا في البداية، لكنه يتحوّل إلى تأمل.
- لا تغص وحدك أبدًا: السلامة أولًا وأخيرًا.
- احترم المكان: لا تلمس التكوينات الصخرية، ولا تترك أثرًا.
- احمل فضولًا، لا توقعات.
تولوم ليست فقط شواطئ
قد يأتي البعض إلى تولوم بحثًا عن الشمس والكوكتيلات الشاطئية، وهذا جميل.
لكن الذين يغوصون في كهوفها… يعودون بشيء أعمق.
شيء لا يُرى، لكن يُشعر به.
في السينوتيه، وجدتُ مساحة بين الزمن،
بين الماضي السحيق، والحاضر المرتبك،
وجدتُ صمتًا علّمني أكثر من ألف صوت.
وداعًا يا تولوم… أو إلى اللقاء؟
حين حان وقت الرحيل، جلست على الشاطئ، أراقب البحر الكاريبي في سكون.
الرياح كانت تداعب أوراق النخيل، وديفيد جلس بجانبي، صامتًا.
"هل تعتقد أنني سأعود؟" سألته.
أجاب دون أن يلتفت:
"الكهوف لا تنسى من زارها… وستُناديك يومًا ما."
ابتسمت.
في داخلي، عرفت أن الرحلة لم تنتهِ، بل بدأت.
✍️ هل سبق لك أن غصت في كهوف مائية؟ أو حلمت بذلك؟
شارك تجربتك أو أمنيتك في التعليقات – فربما تكون الخطوة الأولى نحو مغامرتك القادمة.