إسبانيا… الحلم الذي صار ذكرى لا تُنسى

 إسبانيا… الحلم الذي صار ذكرى لا تُنسى

منذ أن كنت صغيرًا، كانت فكرة السفر إلى إسبانيا تشعل في قلبي نار الحماس والفضول. لطالما بدت لي وكأنها لوحة فنية نابضة بالحياة: شوارع ضيقة تنبض بالموسيقى، شواطئ ذهبية تغازلها الشمس، مدن تاريخية تنطق بجمال العصور الماضية، وشعب يعشق الحياة بكل تفاصيلها. كنت أسمع عنها كثيرًا، أراها في أفلام السفر وبرامج الطهي، وكنت أقول لنفسي: "يومًا ما، سأمشي في شوارعها، وسأتذوق التاباس على ناصية أحد مقاهيها الصغيرة."

ثم جاء اليوم.

التحضيرات: رحلة تبدأ قبل الإقلاع

كل شيء بدأ بمكالمة هاتفية مع صديقي عمر. قال لي: "ماذا لو سافرنا إلى إسبانيا في الصيف؟" لم أتردد. اتفقنا، وبدأنا في التخطيط.

التأشيرة كانت أولى خطوات الرحلة. جهزنا جوازات السفر، وحجزنا موعدًا في السفارة الإسبانية. الأوراق المطلوبة كانت واضحة: كشف حساب بنكي، تأمين سفر، حجز فندقي، وتذكرة طيران ذهابًا وإيابًا. بعد أسبوعين، تلقينا البريد الإلكتروني: "تمت الموافقة على طلب التأشيرة." فرحت كأنني ربحت كنزًا.

ثم انتقلنا إلى مرحلة الحجوزات. استخدمنا تطبيقات مثل Booking وSkyscanner لاختيار فنادق متوسطة السعر وموقعها جيد، واخترنا أن نهبط في مدريد ثم ننتقل إلى برشلونة بالقطار، ومنها نزور غرناطة، إشبيلية، وفالنسيا. حجزنا بطاقة قطار Eurail لتسهيل التنقل.

أما اللغة، فكانت تحديًا. قررنا تعلم بعض العبارات البسيطة بالإسبانية مثل: “¿Dónde está el baño?” (أين الحمام؟) و“Gracias” (شكرًا). لم نكن محترفين، لكن النية الطيبة والابتسامة كانت كافية لفتح الأبواب.

وفي الليلة السابقة للسفر، لم أتمكن من النوم. كنت أشعر أنني على وشك دخول قصة جديدة، لا أعرف تفاصيلها بعد.

الوصول إلى إسبانيا: لحظة الانبهار الأولى

وصلنا إلى مطار باراخاس في مدريد بعد رحلة استغرقت نحو 4 ساعات. خرجت من الطائرة، فتلقّتني رائحة الهواء الأوروبي الممزوجة بنسيم صيفي دافئ. أول ما لاحظته هو النظام، والهدوء، وابتسامات الموظفين.

ركبنا المترو من المطار، وأنا أنظر من النافذة كمن يفتح عينيه على الحياة لأول مرة. الأشجار مصطفة، الجدران مزينة برسومات فنية، والناس يتحركون وكأنهم جزء من سيمفونية متناغمة.

حين وصلنا إلى الفندق، ألقيت حقيبتي واستلقيت على السرير، ثم فتحت النافذة: صوت غيتار إسباني يتسلل من بعيد، ورائحة طعام تشيوريزو تنبعث من أحد المطاعم المجاورة. تلك اللحظة، شعرت أنني وصلت فعلًا.

مدريد: نبض القلب الإسباني

قضينا في مدريد خمسة أيام لا تُنسى.

بدأنا صباحنا في ساحة بلازا مايور، حيث المقاهي تطل على الساحة من كل زاوية، والحمام يطير فوق رؤوس المارة. تناولت فطورًا تقليديًا: شوروس مع شوكولاتة ساخنة. كان الطعم بسيطًا لكنه مدهش، وكأنك تتذوق صباحًا إسبانيًا نقيًا.

زرنا قصر مدريد الملكي، وأنا أتأمل كل زاوية من زخارفه، كأنني داخل فيلم تاريخي. ثم توجهنا إلى حديقة ريتيرو، حيث استأجرنا قاربًا صغيرًا، وأخذنا نتجول وسط البحيرة، تحت ظلال الأشجار، وحولنا طيور البط تسبح بهدوء.

وفي المساء، حضرنا عرض فلامنكو في حي لافابييس. كانت التجربة ساحرة: التصفيق، الرقص، القيثارات، النظرات الحادة، وكأنك تشاهد قصة حب وغضب تتراقص أمامك. لم أفهم كل الكلمات، لكني شعرت بكل شيء.

الأطعمة؟ لا تسأل. التاباس في كل زاوية: جبن مانشيغو، جمبري بالثوم، باذنجان بالعسل. كل طبق كان حكاية بحد ذاته.

برشلونة: مدينة الفن والشاطئ

بعد أيام مدريد، ركبنا القطار نحو برشلونة. الرحلة كانت مريحة، والمناظر بين المدن مدهشة: حقول، جبال، قرى صغيرة تتناثر كأنها رسومات في دفتر طفل موهوب.

برشلونة كانت مختلفة. أكثر انفتاحًا، أكثر فنًا، وكأنها مدينة قررت أن تكون معرضًا مفتوحًا.

زرنا كنيسة ساغرادا فاميليا، من تصميم غاودي، ذلك العبقري المجنون الذي حوّل المعمار إلى حلم. وقفت أمامها مذهولًا: كيف يمكن أن تُبنى كنيسة بهذا الشكل؟ وكأنها تنبت من الأرض ككريستالة خرافية.

مررنا في شارع لا رامبلا، حيث الفنانون يرسمون ويغنون، والسياح يتأملون وجوه بعضهم البعض. شربنا عصير مانغا في سوق بوكيريا، وتذوقنا المأكولات البحرية الطازجة على ناصية أحد الأكشاك.

وفي المساء، جلسنا على شاطئ برشلونة، والرمل تحت أقدامنا دافئ، والماء يلمع تحت ضوء القمر، وأصوات العازفين الجوالين تعزف لنا ليلًا لا نريد أن ينتهي.

مدن الجنوب: غرناطة، إشبيلية، وفالنسيا

من برشلونة، اتجهنا جنوبًا.

في غرناطة، كانت زيارتنا إلى قصر الحمراء أشبه برحلة في كتاب ألف ليلة وليلة. النقوش العربية، النوافير، الحدائق، الهواء المعطر برائحة الياسمين… شعرت كأنني عدت إلى الأندلس، إلى زمن المجد والرقي.

إشبيلية كانت مدينة الشمس. حضرنا مهرجانًا صغيرًا للرقص الشعبي، ورأيت كيف يحتفل الإسبان بالحياة، بالضحك، بالفرح العابر. شوارعها مزينة بالبلاط الملون، والأزقة تفوح منها رائحة البرتقال.

أما فالنسيا، فكانت المفاجأة. حديثة، شبابية، لكن محتفظة بسحرها. زرنا مدينة الفنون والعلوم، وتجولنا في شوارعها التي تنبض بالإبداع. تناولت فيها ألذ طبق باييّا بحياتي، وهو طبق الأرز المشهور هناك.

الثقافة الإسبانية: روح لا تُشبِه أحدًا

ما يميز إسبانيا ليس فقط المدن، بل الناس. الإسبان شعب ودود، عفوي، يحب الضحك. لديهم قدرة غريبة على أن يجعلوك تشعر أنك تعرفهم منذ زمن.

التحية لديهم تبدأ بقبلة على الخد، حتى وإن لم يعرفوك، وهذا جعلني أبتسم كثيرًا. احتفالهم بالحياة لا يتوقف: من مهرجان لا طوماطينا إلى الفيربا إلى مباريات الكرة التي يتحول فيها الشارع إلى مدرج كبير.

يعشقون السهر، وغالبًا لا يبدأ العشاء قبل التاسعة مساءً. وحتى منتصف الليل، تبقى الشوارع نابضة بالحياة.

اللغة لم تكن حاجزًا حقيقيًا، فمعظمهم يتحدث القليل من الإنجليزية، ومع إشارات اليد والقلب، كنا نفهم بعضنا.

مواقف لا تُنسى

في مدريد، ضيعت محفظتي في مترو الأنفاق. شعرت برعب حقيقي. لكن بعد ساعة، اتصل بي شخص يعمل هناك، وجد بطاقتي البنكية واتصل برقم الطوارئ المرفق فيها. ذهبت لأستلمها، وإذا به يعطيني إياها ويقول لي: "¡Bienvenido a España!" (مرحبًا بك في إسبانيا). لحظة لن أنساها أبدًا.

في غرناطة، دعانا أحد السكان المحليين لحضور عشاء عائلي بسيط. أعدوا لنا طاجنًا تقليديًا، وتحدثنا بلغة الإشارة، وضحكنا كثيرًا. شعرت وكأنني أحد أفراد العائلة.

نصائح للمسافرين إلى إسبانيا لأول مرة

  1. تعلم بعض العبارات بالإسبانية، فهي تساعد كثيرًا في كسر الحواجز.

  2. استخدم وسائل النقل العامة، فهي آمنة وسهلة ورخيصة.

  3. جرب الأكل المحلي، لا تكتفِ بالمطاعم السياحية.

  4. احمل دائمًا نقدًا، فبعض الأماكن لا تقبل البطاقات.

  5. احذر من النشالين، خاصة في الأماكن المزدحمة.

  6. لا تجهد نفسك بتغطية كل شيء، دع للرحلة متسعًا للمفاجآت.

الوداع: هل سأعود؟

في يومنا الأخير، جلست على أحد مقاهي برشلونة، أرتشف قهوتي الأخيرة، وأراقب الحياة تمضي أمامي. كنت أشعر بمزيج من الامتنان والحزن. إسبانيا لم تكن مجرد رحلة، كانت تحولًا داخليًا.

تعلمت فيها أن أعيش ببطء، أن أحتفل بكل لحظة، أن أبتسم أكثر.

هل سأعود؟ نعم. بل ربما لن أرحل أبدًا عنها في قلبي.


تعليقات