مراحل القمر
- شكل القمر يتبدل. لا بثبات، لا بعشوائية، بل بإيقاع خفي لا يراه إلا من تأمل السماء طويلًا. تطلعه الليلة ليس هو ذاته بالأمس، وقد لا يكون كذلك غدًا. هو لا يعبث بمظهره عبثًا، بل يمضي في مسار مرسوم بدقة، يدور حول الأرض، وتدور معه حكايات النور والظل. من يرفع عينيه للسماء في منتصف الليل قد يراه مكتملًا، مشرقًا، طاغيًا في حضوره. وفي ليلة أخرى، قد لا يراه إطلاقًا. القمر لا يختفي، لكنه يختار متى يواجهنا بوجهه المضيء.
- هو لا يضيء من ذاته. ليس نجمًا، بل مرآة. يستعير نوره من الشمس، يعكسه كيفما اتفقت الزوايا والمسافات. أحيانًا يكون قريبًا من الأرض، وأحيانًا في أقصى بعد، لكنه في الحالتين، يدور. يدور بلا توقف، بلا تذمر، بلا ضجيج. فقط يدور.
- في لحظةٍ ما، يكون وجهه المعتم هو ما نراه. كأنه انزوى، أو اختار الغياب. ثم، بهدوء يشبه الهمس، يولد خيط رفيع من الضوء. قوس خجول في ظلمة واسعة. هذا ليس ضوءًا عاديًا، بل وعدٌ بأن القمر قادم. يكبر هذا الخيط ليلًا بعد ليلة، كأن الضوء يتكاثر. تتسع دائرته، يتجلى أكثر، يصبح واضحًا. لكنه لا يعطينا كل شيء دفعة واحدة، بل يتركنا ننتظر.
- يستمر القمر في نموه، كطفل واثق لكنه متأنٍ. نصفه يضيء، ثم أكثر. حتى يصبح قرصًا كاملًا، ساطعًا، يكاد يغني الليل بنفسه. في هذه اللحظة، يكون القمر في مواجهة مثالية مع الشمس. كل ما يملكه من سطح مكشوف لنا، مضاء. لا ظلال. لا أسرار. فقط وهج.
- لكن الكمال لا يدوم. شيئًا فشيئًا، يبدأ في الانكماش. لا ينهار فجأة، بل ينسحب، مثل موجة تعود إلى البحر. الضوء يقل، القرص ينقص. يمر على ذات المحطات التي زارها صعودًا، لكن هذه المرة بالعكس. من قرص كامل إلى نصف، ثم إلى شريحة ضوء ضئيلة، ثم إلى لا شيء. وتعود الدورة من جديد.
- الناس تحب التكرار الذي يحمل اختلافًا. في الليل، القمر مثل ساعة بطيئة لكن دقيقة. كل مرحلة فيه تحكي زمنًا. من يراقبه لا يكتفي برؤية الضوء، بل يرى الوقت، يتحسس دورانه. كل تحول بسيط يخفي وراءه حسابًا سماويًا معقدًا.
- وفي المجتمعات القديمة، لم يكن القمر مجرد مشهد جميل. كان دليلًا. كانوا يزرعون حين يكتمل، ويحصدون حين يتراجع. كان إشارتهم الأولى لبدء شهر أو نهاية موسم. لم يكن الفلك علمًا مجردًا، بل حياة يومية، وكان القمر نجم هذه الحياة.
- الغريب أن القمر، رغم سكونه، يُحدث ضجة في نفوس البشر. هناك من لا ينام جيدًا حين يكتمل. هناك من يشعر بطاقة غريبة، رغبة في الحديث، أو البكاء، أو الكتابة. وكأن اكتماله لا يخص السماء وحدها، بل يفيض علينا بشيء خفي لا نفهمه تمامًا، لكنه مؤثر.
- ورؤية القمر ليست فعلًا بصريًا فقط. هي تجربة. أنت لا "ترى" القمر فقط، بل تشعر به. طفل يرى الهلال لأول مرة يشعر بالدهشة. شخص يراقب البدر من على سطح منزله قد يغوص في الذكريات. وراصد فلكي يحصي درجات انحرافه يدرك تفاصيل لن يراها معظم الناس، لكنه يندهش رغم ذلك.
- أجمل ما في القمر أنه لا يحتاج إلى شرح. لا يتطلب فهمًا عميقًا لكي يُبهر. هو هناك، في مكانه، يعيد نفس الحكاية كل شهر، لكننا لا نمل. كل دورة تشبه التي قبلها، لكنها لا تُشبهها تمامًا. كل قوس، كل بدر، يحمل شيئًا جديدًا. وقد يكون هذا الشيء فينا نحن، لا فيه هو.
- حتى في الغياب، يظل القمر حاضرًا. لست بحاجة إلى رؤيته كي تعرف أنه هناك. يكفي أن تتذكر. هذا الهدوء الذي ينسحب به، دون وداع، ثم يعود دون إعلان، يجعله أقرب إلينا من نجوم كثيرة تُضيء لكنها لا تتحرك.
- وما يدعو للدهشة أن شيئًا يدور بذات الوتيرة منذ آلاف السنين لا يزال يدهشنا. لكنه يفعل. ربما لأنه مرآة. لا تعكس الشمس فقط، بل تعكسنا نحن. مراحل القمر ليست فقط مراحل ضوء، بل مراحل حياة. أحيانًا نكون في بداية، أحيانًا في اكتمال، وأحيانًا نختفي قليلًا لنعيد ترتيب أنفسنا. تمامًا كما يفعل هو.
- وفي النهاية، لا يُمكنك أن تنظر إلى القمر دون أن تشعر بشيء. حتى إن لم تعرف اسمه، حتى إن لم تفهم كيف يعمل، يكفي أنك تنظر إليه وتبقى صامتًا. هذا الصمت هو اللغة الوحيدة التي يفهمها القمر جيدًا، ويرد عليها بطريقته: بمشهد جديد، بدورة جديدة، بحكاية لم تنتهِ أبدًا.